يعمل الممرضون ليلاً ونهاراً بتكاتف مع الأطباء على رفع مستوى الرعاية الصحية وتحقيق الغاية المثلى للعلاج، وهذا العلم قد تطوَّر مع الزمن؛ إذ أصبح يدرَّس في الجامعات وخُصِّصت معاهد وكليات ومدارس تؤهل العديد من الأشخاص إلى ممارسته؛ إذ أصبح جزءاً لا يتجزأ من العملية الصحيَّة ويرتبط ارتباطاً وثيقاً فيها، فلولا الممرضون والممرضات لما كانت المشافي كما هي الآن ولم تكُن للأطباء القدرة على العمل وحدهم في محاربة الأوبئة والأمراض والحروب.
هذا المجال له مؤسسوه ومدرسوه كما هو الحال في كل مجال علمي وعملي، وفي مقالنا هذا سنتعرَّف إلى رائدة ومؤسسة علم التمريض الحديث السيدة فلورنس نايتنجيل، تابعوا معنا.
حياة فلورنس نايتنجيل:
وُلِدَت فلورنس نايتنجيل في مدينة فلورنسا الإيطالية عام 1820م في عائلة بريطانية ثرية ومن طبقة اجتماعية عليا، والدتها تُدعى فرانسيس نايتنجيل ووالدها ويليام نايتنجيل، كانت والدتها من عائلة مشهورة بالتجارة والعلاقات الاجتماعية مع الأشخاص ذوي المكانة، وعلى الرغم من أنَّ والدتها لديها انفتاح اجتماعي وتهوى التواصل والتسلُّق الاجتماعي المكاني، إلَّا أنَّ فلورنس كانت بخلاف لا تحب جذب الاهتمام وتشعر بالخجل عند انخراطها في مواقف اجتماعية، وكانت فلورنس نايتنجيل معروفة بقوة الإرادة والثبات، ودائمة الشجار والعناد مع والدتها شديدة السيطرة، إلَّا أنَّ حالها حال جميع الفتيات كانت تحاول إرضاء والدتها بكافة الطرائق.
كان والدها ويليام نايتنجيل رجلاً ثرياً ووريث عقارات وأراضٍ، ورثَ أرضاً وعقاراً في ديربشير وفي هامبشير، وترعرعت فلورنس في بيت العائلة الواقع في ليا هيرست ديربشاير، وتعلَّمت هناك تعليماً تقليدياً كلاسيكياً بالإضافة إلى اللغات الإيطالية والألمانية والفرنسية.
كانت فلورنس نايتنجيل تحب الأعمال التطوعية الخيرية وناشطة في مساعدة الفقراء والمحتاجين والمرضى والمستضعفين في القرى الواقعة ضمن محيط ممتلكات والدها، وبعد تجاوزها سن السادسة عشر من العمر، طمحت إلى تعلُّم التمريض وكان هدفاً لها أشارت إليه بأنَّه هدفها الإلهي.
فلورنس نايتنجيل والتمريض:
عادت فلورنس نايتنجيل إلى بريطانيا إلى مدينة لندن في خمسينيات القرن الـ 19 الميلادي لممارسة التمريض؛ إذ عملت في مشفى ميدل سيكس وكان عملها يتكلَّم عنها، وأُعجب بها ربُّ عملها ورقَّاها إلى مشرفة بعد عام من بداية عملها هناك.
واجهت فلورنس نايتنجيل وباء الكوليرا؛ إذ تفشى هذا المرض بشكل كبير وسريع، وارتفعت أعداد الإصابات والوفيات نتيجة قلة النظافة والظروف غير الصحية؛ مما جعلها تتَّجه نحو التوعية بأهمية النظافة وضبط العدوى وتعليم وتحسين ممارسات النظافة الشخصية والعامة.
جاهدت فلورنس نايتنجيل في تحقيق هدفها ودعم قضية التمريض؛ لذا موَّلت وبنَت مشفى القديس توماس وأنشأت ضمنها مدرسة نايتنجيل للتمريض وتأهيل الممرضات، وبفضل فلورنس أصبحت للتمريض قيمة اجتماعية ولم يَعُد يُزدرى من الطبقات العليا؛ بل بخلاف ذلك تهافتت النساء من ذوات المكانات الاجتماعية المرموقة للتسجيل في مدرسة نايتنجيل للتمريض.
أصبح التمريض طموح العديد من فتيات تلك الحقبة، وبدأ علم التمريض يكسب مكانته ضمن العلوم الأخرى على أنَّه علم شريف وذو قيَم أخلاقية واجتماعية عالية، ونالت فلورنس نايتنجيل الفضل والشهرة وكُرِّمَت وأُنشِئَت قصائد وأغانٍ فيها وكذلك أُقيمت المسرحيات التي أظهرتها كبطلة القرن التاسع عشر.
عانت فلورنس في فترة مكوثها في سكوتاري من إصابتها بحمى القرم، ولم تُشفَ منها بشكل كامل وظلَّت ملازمة فراشها ومنزلها وهي بعمر 38 عاماً، وبقيت على هذه الحالة حتى وفاتها، لكن لم تتوقف فلورنس عن العمل تجاه هدفها؛ بل كانت تتصف بالعزم والإرادة وهي تكرِّس كل وقتها وجهدها في محاولة تحسين التمريض ووسائل الرعاية الصحية والعمل على تخفيف معاناة الجرحى والمرضى وكل مَن بحاجة.
أجرت فلورنس نايتنجيل العديد من المقابلات مع سياسيين وذوي مكانات واستقبلت العديد من الزوار وهي في سريرها، وعمَّمت عام 1859م ملاحظاتها على المشافي وركزت في العملية التمريضية وكيفية تسيير المشافي بشكل مضبوط وصحيح، وركزت في وسائل ضبط العدوى وغسل اليدين والنظافة فيها.
لقد أُخِذَت استشارتها في طرائق إدارة وتسيير المشافي الميدانية وتمريض المصابين والجرحى والمرضى في الولايات المتحدة الأمريكية عند اندلاع الحرب الأهلية، وعمِلَت بصفتها مرجعاً في مسائل الصرف الصحي في الهند رغم أنَّها لم تذهب قط إليها.
تلقَّت فلورنس نايتنجيل وسام الشرف من الملك إدوارد عام 1908 وكانت في عمر 88، وكذلك تلقَّت رسالة معايدة وتهنئة في عيد ميلادها الـ 90 عاماً 1910 من الملك جورج.
فلورنس نايتنجيل وحرب القرم:
اندلعت حربٌ ضروسٌ بين تحالف ضمَّ الإمبراطورية العثمانية والمملكة البريطانية والفرنسية وسردينيا ضد الإمبراطورية الروسية عام 1853، وكان سبب الحرب هو محاولة الممالك المتحالفة إعادة الكنيسة الكاثوليكية إلى السيطرة وإلغاء الكنيسة الأرثوذكسية.
كانت شبه جزيرة القرم التي تقع على البحر الأسود هي ساحة المعركة، وعلى الرغم من قوة التحالف وتقدُّمه في الحرب إلَّا أنَّ الكثير من الأمراض تفشَّت بالتوافق مع نقص في الدواء والتمريض والطبابة، وعندها دعا وزير الحرب هربرت فلورنس نايتنجيل لتقدِّم لهم يد العون في هذه الحرب.
جمعت فلورنس نايتنجيل عدداً من الممرضات المتطوعات وذهبن إلى شبه جزيرة القرم، عندها قدَّم الأطباء والممرضون تقريراً مفصلاً عن الحالات المرضيَّة والإصابات الموجودة وأخبروها بمدى قلة المواد الدوائية والغذائية والنظافة، وكل تلك النواقص أدَّت إلى العديد من الأمراض والمضاعفات التالية للإصابات من الإنتانات والغرغرينا والحمى، بالإضافة إلى الأمراض الجهازية الأخرى الناتجة عن قلة الغذاء والدواء والنظافة؛ إذ أَحصوا الوفيات فوجدوا أنَّ نسبة مَن ماتوا في أرض المعركة من الأمراض التي ليس لها علاقة بالإصابة أو الحرب أعلى ممَّن ماتوا نتيجة القتال والإصابات، ويرجَّح الأمر أيضاً إلى إهمال الأطباء والممرضين وعدم توليهم لمهامهم بشكل صحيح أيضاً.
نظرية فلورنس نايتنجيل البيئية:
في أثناء عمل فلورنس نايتنجيل على تطوير التمريض ووضع أسسه وتسجيل ملاحظاتها الخاصة عنه، بدأ يجول في تفكيرها دور البيئة المحيطة في تحسين حالة المريض النفسية وتسريع دورة الشفاء من خلال إسهامها في تعزيز العمليات البيولوجية والفيزيولوجية.
كانت نظريتها تدور حول تأثير العوامل الخارجية المحيطة بالمريض في مدى تحسنه، فالمريض برأيها يحتاج إلى جو نظيف نقي الهواء والماء يكون معقماً والحرارة فيه مضبوطة لا هي باردة ولا هي حارة مع توفير الغذاء الصحي والعناية بالنظافة الشخصية والصرف الصحي، بالإضافة إلى حصول المرضى على كمية كافية من أشعة الشمس وتهوية الغرف؛ إذ إنَّ الضوء الطبيعي له تأثير كبير في قدرة المريض على التعافي والعلاج.
مساهمات فلورنس نايتنجيل:
1. الإصلاح الصحي:
أدت إجراءات فلورنس نايتنجيل إلى نقلة نوعية في مجال الرعاية الصحية؛ إذ أصلَحت العديد من الممارسات الطبية والتمريضية وطوَّرتها، وراقبت طرائق العمل في المشافي ومراكز الرعاية واكتشفت أنَّ معظم حالات الوفاة وانتشار الأمراض تعزو إلى انعدام كفاءة الكادر الطبي والتمريضي وإهماله ونقص خبرته وقلة الأيدي العاملة في هذا المجال؛ لذلك عملت على تعزيز الضوابط المتعلِّقة بأسس ونظام تطبيق الرعاية الصحية والنظافة والتعقيم والتدابير المناسبة لتدبير الحالات وتعميمها على المشافي، وإلى جانب مساعدتها للجنود في حرب القرم أنشأت لجنة إحصائية تدرُس معدلات الوفيات وانتشار الأمراض وأسبابها بالتعاون مع العائلة الحاكمة، وكذلك دعتها الملكة فيكتوريا إلى عقد جلسة نقاش لكيفية إصلاح المؤسسة العسكرية في المملكة المتحدة.
2. مخطط وردة العندليب:
بالإضافة إلى دور فلورنس نايتنجيل وإنجازاتها في التمريض والصحة، كانت خبيرة في الإحصاء والرسوم البيانية، ومتقنة للرسم الدائري البياني الذي ظهر عام 1801م، وطوَّرت فيه، وسُمِّي باسم مخطط وردة العندليب، واعتمدت نايتنجيل هذه الطريقة الإحصائية في المستشفيات عند العمل على تسجيل إحصاءات الوفيات وأسبابها ضمنها؛ ونتيجة هذا الإنجاز دُعيَت إلى الانضمام إلى جمعية الإحصاء الملكية عام 1859م.
3. الحركة الأنثوية:
في تلك الحقبة الزمنية لم تكُن المرأة تهدف إلى الحصول على عمل أو تعليم أو طموح يساويها مع الرجل، ودائماً ما كان سقف طموحاتها الزواج وإنجاب الأطفال والحياة المستقرة، أمَّا فلورنس نايتنجيل كانت امرأة طموحة وكان لوالدها دور كبير بدعمها من خلال إيمانه بأهمية تعليم الأنثى، وأصبحت فلورنس ناشطة تشجِّع وتدعم النسوية والمساواة بين الرجل والمرأة، وكتبت العديد من المقالات التي تؤكد دور المرأة الاجتماعي وأهميتها في تطوير المجتمع.
4. علم اللاهوت:
لطالما كانت فلورنس نايتنجيل شخصاً مؤمناً بالله ومتديناً؛ إذ إنَّ حبها للتمريض والعمل فيه كانت تَعُدُّه قدراً ورسالة إلهية، وكانت ترى أنَّ الدين يظهر في التعامل وفي الرعاية ومساعدة الآخرين وحبهم، وعملت على كتابة كتاب ديني يحمل في صفحاته أفكارها الدينية غير التقليدية وحمل اسم اقتراحات الفكر، وكذلك كانت نايتنجيل امرأة مؤمنة بالنهاية السعيدة للجميع؛ إذ آمنت بأنَّ كل من يموت يستحق الخلاص الأبدي المتمثل بالجنة بلا حساب.
في الختام:
كنَّا قد تعرَّفنا في هذا المقال إلى السيدة فلورنس نايتنجيل وحياتها ودورها في تطوير علم التمريض ومساعداتها في حرب القرم والمستشفيات، وكذلك تطرَّقنا إلى نظريتها البيئية ومساهماتها الأخرى على عدة أصعدة.
المصادر: 1، 2
اكتشاف المزيد من موقع الربوح
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.