من هو “فان غوخ”؟
كان “فينسينت فان غوخ” رسام لوحاتٍ انطباعيةٍ وشخصاً مزاجياً أثرت أعماله المشهورة بجمالها وعاطفتها وألوانها في عالم الفن في القرن العشرين، وعانى طوال حياته تقريباً من مرض عقليٍ، وظل فقيراً ومجهولاً إلى أن أصبح مشهوراً جداً بعد وفاته.
عائلة “فان غوخ” وحياته المبكرة:
وُلد “فينسينت فان غوخ” في اليوم 30 من شهر آذار/ مارس عام 1853م، في قرية “جروت زاندرت” في “هولندا”، فكان والده “تيودوروس فان غوخ” قسَّاً ريفياً صارماً وصعباً، وكانت والدته “آنا كورنيليا كاربينتوس” فنانةً متقلبة المزاج وأورثت حبها للطبيعة والألوان المائية والرسم إلى ابنها.
وُلد “فان غوخ” بعد عامٍ واحدٍ من ولادة الابن الأول لوالديه الذي كان يدعى “فينسينت” أيضاً، ولكنَّه وُلد ميتاً، ونتيجة تسميته باسم أخيه المتوفى ورؤيته لاسمه موضوعاً على شاهد قبر أخيه، عانى “فان غوخ” من الحزن والكآبة طوال حياته.
“ثيو فان غوخ”:
كان “فينسينت فان غوخ” الابن الأكبر بين ستة أطفالٍ، كانوا ثلاثة أخوةٍ وثلاث أخواتٍ، فالصبيان “ثيو” الذي عمل فيما بعد تاجر فنونٍ ودعم فن أخيه الأكبر، و”كور”، والفتيات “آنا” و”إليزابيث” و”ويليميان”، وأدى “ثيو فان غوخ” لاحقاً دوراً كبيراً في حياة أخيه الأكبر وكان مؤمناً وداعماً شديداً له ولفنه.
“فان غوخ” والتعليم:
عندما كان “فان غوخ” في سن الـ 15، كانت عائلته تعاني من الضيق المادي الشديد وتكافح لتأمين لقمة العيش؛ لذا أُجبر “فينسينت” حينذاك على ترك المدرسة والذهاب إلى العمل، فحصل على وظيفةٍ في وكالةٍ للأعمال الفنية كان يمتلكها عمه “كوريليس” وتدعى (Cie & Goupil)، وهي شركةٌ تعمل في تجارة الأعمال الفنية في “لاهاي”، وبحلول ذلك الوقت، كان “فان غوخ” يتحدث الفرنسية والألمانية والإنجليزية بطلاقةٍ، إضافةً إلى الهولندية لغته الأم.
في شهر حزيران/ يونيو من عام 1873م، نُقِل “فان غوخ” للعمل في معرض (Groupil) في “لندن”، وهناك وقع في حب الثقافة الإنجليزية، وزار المعارض الفنية في أوقات فراغه وأُعجب بكتابات “تشارلز ديكنز” و”جورج إليوت”، كما وقع في حب ابنة مالكة الأرض “أوجيني لوير”.
عانى “فان غوخ” من الانهيار العصبي والاكتئاب بعدما رفضت “أوجيني” الزواج منه، وقام بإلقاء جميع كتبه ما عدا الكتاب المقدس، وكرَّس حياته لله، وحصلت مشكلات بينه وبين زملائه في العمل وغضب منهم، وصار يطلب من الزبائن عدم شراء “الفن الذي لا قيمة له” – كما قال – حتى طُرِد من عمله في النهاية.
حياة “فان غوخ” بصفته واعظاً:
درس “فان غوخ” في مدرسة مثيودية للبنين، وقام بإلقاء المواعظ على المصلين في الكنيسة، وعلى الرغم من نشأته في عائلةٍ متدينةٍ، إلا أنَّه لم يبدأ حتى عمرٍ متقدمٍ نسبياً بالتفكير في الدين وتكريس حياته للكنيسة، فكان يأمل أن يصبح قسيساً واستعد جيداً لخوض امتحان القبول في مدرسة اللاهوت في “أمستردام”، وبعد عامٍ من الدراسة بجدٍ، رفض تقديم الامتحانات اللاتينية، واصفاً اللغة اللاتينية بأنَّها “لغةٌ ميتةٌ وللفقراء”؛ السبب الذي جعلهم يمنعونه من خوض الامتحان ومن قبوله بصفته قساً في الكنيسة.
لقد حدث نفس الشيء في كنيسة في “بلجيكا” في شتاء عام 1878م؛ إذ تطوع “فان غوخ” للانتقال إلى منجم فحمٍ فقيرٍ في جنوب “بلجيكا”، وكان هذا المكان بمنزلة عقابٍ للدعاة؛ إذ قام فيه بوعظ الناس والمرضى وخدمتهم، ومساعدة عمال المنجم، كما ورسم بعض الصور لهم ولعائلاتهم، وأطلقوا عليه اسم “مسيح مناجم الفحم”.
لم تكن اللجان الكنيسية الإنجليزية مسرورةً من “فان غوخ” وأسلوب حياته بصفته واعظاً؛ إذ بدأ نمط حياته يتخذ نمطاً استشهادياً، فرفضوا تجديد عقد “فان غوخ”، واضطر إلى البحث عن مهنةٍ أخرى يقتات منها.
البحث عن العزاء في الفن:
قرر “فان غوخ” الانتقال إلى “بروكسل” ليصبح فناناً في خريف عام 1880م، عندها قام شقيقه “ثيو” بدعمه مالياً على الرغم من عدم حصوله على تدريبٍ فنيٍ؛ وإنَّما فقط إيماناً بموهبة أخيه، وبدأ بعدها “فان غوخ” بالدراسة بنفسه، وقراءة الكتب الفنية أمثال (Travaux des Champs) لـ “جان فرانسوا ميليت”، و(Cours de Dessin) لـ “تشارلز بارغ”.
لقد ساعد الفن وانخراط “فان غوخ” فيه على الحفاظ على توازنه العاطفي، ومع حلول عام 1885م، بدأ بالعمل على ما يُعَدُّ تحفته الأولى (Potato Eaters)، ولكنَّ شقيقه “ثيو” الذي كان يعيش في “باريس”، لم يعتقد أنَّ اللوحة ستنال استحساناً وشهرةً في العاصمة الفرنسية، في عصرٍ أصبحت فيه الانطباعية هي الاتجاه السائد في فن الرسم، ومع ذلك، قرر “فان غوخ” الانتقال إلى “باريس” وظهر في منزل “ثيو” دون دعوةٍ عام 1886م.
رأى “فان غوخ” الفن الانطباعي لأول مرةٍ في “باريس”، وألهمته الألوان الأضواء الطاغية عليه، عندها بدأ الدراسة مع “هنري دي تولوز لوتريك” و”كاميل بيسارو” وآخرين، ولتوفير المال، وقف “فان” وأصدقاؤه لبعضهم بعضاً في أثناء الرسم بدلاً من تعيين عارضين ودفع المال لهم، لكن بسبب شغف “فان غوخ” وتميزه تجادل مع الرسامين زملائه؛ وهذا أدى إلى نفور أولئك الذين سئموا من مشاحناته.
قرية “آرل” الفرنسية و”فان غوخ”:
تأثر “فان غوخ” بالفن الياباني وبدأ بدراسة الفلسفة الشرقية لتعزيز فنه وثقافته وحياته، وكان يحلم كثيراً في السفر إلى هناك، لكن قال له “تولوز لوتريك” إنَّ الضوء في قرية “آرل” يشبه تماماً الضوء في اليابان؛ لذلك وفي عام 1888م استقل “فان غوخ” قطاراً إلى جنوب “فرنسا” وانتقل إلى بيتٍ مشهورٍ حالياً ويدعى “البيت الأصفر” وأنفق أمواله على الألوان ومستلزمات الرسم أكثر من إنفاقها على الطعام.
لوحات “فان غوخ”:
أكمل “فينسينت فان غوخ” أكثر من 2100 عملاً فنياً، يتألف من 860 لوحةً زيتيةً وأكثر من 1300 لوحة مائية، بالإضافة إلى بعض الرسومات والسكيتشات، وتُعَدُّ لوحاته الآن من بين أغلى اللوحات في العالم؛ إذ بيعت لوحته (Irises) مقابل 53,9 مليون دولار أمريكي، وبيعت (Portrait of Dr. Gachet) بمبلغ 82،5 مليون دولار أمريكي.
تشمل الأعمال الفنية الأكثر شهرةً لـ “فان غوخ” ما يأتي:
1. لوحة (Starry Night):
رسم “فان غوخ” لوحته المشهورة “ليلة النجوم” في الملجأ الذي كان يقيم فيه في “سان ريمي” في “فرنسا” عام 1889م ،وذلك قبل عامٍ من وفاته.
مزيجٌ من الخيال والذاكرة والعاطفة، تُصوِّر هذه اللوحة الزيتية سماءً ليليةً معبرةً ومرصعةً بالنجوم ودوامةً وقريةً نائمةً، مع شجرة سروٍ كبيرةٍ تشبه الشعلة، يُعتقد بأنَّها تمثل الجسر بين الحياة والموت، واللوحة موجودةٌ الآن في متحف الفن الحديث في “نيويورك”.
2. لوحات (SunFlowers):
رسم “فان جوخ” سلسلتين من لوحات عباد الشمس عندما كان في قرية “آرل”؛ أربع لوحات منهم بين شهر آب/ أغسطس وشهر أيلول/ سيبتيمبر عام 1888م، وواحدةٌ في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1889م.
وتُصوِّر هذه اللوحات الزيتية ذبول عباد الشمس الأصفر في إناء، وتُعرض حالياً في متاحف “لندن” و”أمستردام” و”طوكيو” و”ميونخ” و”فيلادلفيا”.
3. لوحة (Irises):
في عام 1889م، وبعد لجوئه إلى مصحٍ في “سان ريمي” في “فرنسا”، بدأ “فان غوخ” برسم زهور السوسن الموجودة في حديقة المصح، ويعتقد النقاد أنَّ اللوحة تأثرت بالرسمات الخشبية اليابانية.
علَّق الناقد الفرنسي “أوكتاف ميربو”؛ المالك الأول للوحة والمؤيد الأول لـ “فان غوخ”؛ إذ قال: “إلى أي مدىً فهم الطبيعة الرائعة للزهور”.
مرض “فان غوخ” ووفاته:
عانى “فان غوخ” بعد انتقاله إلى “آرل” من سوء التغذية؛ إذ لم يكن يتناول سوى الخبز والقهوة والأفسنتين، وينفق ما معه من مال في شراء الألوان، وقيل أيضاً إنَّه كان يرتشف الألوان الزيتية ويأكل الطلاء؛ لذلك سوء التغذية ومعاناته من المرض النفسي والألوان السامة التي تعرض لها وتناولها سببت تدهور حالته الصحية بشكلٍ كبيرٍ.
لقد بقي هكذا حتى اليوم 27 من شهر تموز/ يوليو عام 1890م، حين خرج للرسم في الصباح حاملاً مسدساً محشواً وأطلق النار على صدره، ولكنَّ الرصاصة لم تقتله وعُثر عليه ينزف في غرفته، فكان “فان غوخ” عندها متشتتاً ومتخوفاً بشأن مستقبله لأنَّ أخاه “ثيو” قدم إليه في شهر أيار/ مايو من ذلك العام وتحدث معه عن الحاجة إلى أن يكون أكثر تدبيراً وحرصاً في إنفاق المال، وهنا ظن “فان غوخ” أنَّ أخاه لم يَعُد مهتماً ببيع فنه.
نُقل “فان غوخ” إلى مستشفى قريب وراسل الأطباء أخاه “ثيو”، الذي وصل ليجد أخاه “فينسينت” جالساً في السرير يدخن غليوناً، وأمضيا اليومين التاليين يتحدثان معاً، ثم طلب “فان غوخ” اصطحابه إلى المنزل، وقد توفي في اليوم 29 من شهر تموز/ يوليو عام 1890م بين ذراعي شقيقه عن عمر ناهز 37 عاماً.
توفي غير مشهورٍ ولم تُقدَّر أعماله بالقدر الكافي، تاركاً وراءه إرثاً فنياً أصبح فيما بعد من أغلى اللوحات عالمياً، وبات يُعَدُّ أحد أعظم الفنانين في تاريخ البشرية.
في الختام:
لقد تحدثنا في هذا المقال عن المبدع المجنون “فان غوخ”، وتعرفنا إلى حياته وعائلته وأعماله وعلاقاته وإرثه الفني ووفاته.
المصدر
اكتشاف المزيد من موقع الربوح
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.