1. لم يلتزم “فوكو” بالتسميات:

ولد “بول ميشيل فوكو” في “بواتييه – فرنسا” في 15 من شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1926 ميلادي لعائلة بورجوازية، ولقد برع في تعليمه ولكنَّه رفض الكثير من مبادئ تربيته، وأثر عمل “فوكو” بوصفه فيلسوفاً ومؤرخاً تأثيراً جذرياً في المنهج التاريخي، إضافة إلى العديد من المجالات الأخرى بصرف النظر عن الفلسفة، وكان تأثير “فوكو” في الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس نوعياً، وتسبب في العديد من التغييرات الكبرى.

بينما لم يلتزم “فوكو” بالتسميات المتعلقة بفلسفته، فكان لعمله دور فعال في التأثير في مرحلة ما بعد الحداثة، وكانت اهتماماته تنصب على فهم القوة والمعرفة، وادعى بأنَّ المعرفة يجب أن تُستخدم بوصفها شكلاً من أشكال الرقابة الاجتماعية.

درس “ميشيل فوكو” الفلسفة وعلم النفس تحت إشراف البروفيسور “لويس ألتوسير” الذي كان من بين طلابه أيضاً “جاك دريدا” و”بيير بورديو”، فكان “ألتوسير” – وهو عضو قديم في الحزب الشيوعي الفرنسي – مؤثراً إلى حد ما في “فوكو”، وعلى الرغم من أنَّ “فوكو” لم يظل نشطاً في الحزب، إلا أنَّ ميله الأيديولوجي ظل يميل بقوة نحو الاشتراكية، ولقد تأثر أيضاً بـ “ماركس” و”هيغل” في صياغة منهجه التاريخي للبحث الفلسفي.

2. “فوكو” وتاريخ الجنون:

حلل كتاب “فوكو” الأول “تاريخ الجنون” (1961) مفهوم الجنون من وجهة نظر تاريخية؛ إذ ادعى أنَّ المفهوم الحديث لـ “المرض العقلي” كان في الأساس وسيلة للتحكم بأولئك الذين قد يتحدون الأخلاق البرجوازية وهيكل السلطة الراسخ.

كان بحث “فوكو” رائداً في محاولته تحدي المؤسسات التي بررت عزل المرضى عقلياً وإجبارهم على العلاج الطبي، ونظر “فوكو” إلى البنية التحتية الطبية الحديثة على أنَّها فرض مجتمعي للسلطة، مع عَدِّ المرضى عقلياً ضحايا للقمع المؤسساتي، وفي تحليله وضع “فوكو” التفسير التاريخي للجنون الذي كان يرى فيه المجنون إلى حد ما حكيماً بطريقة مختلفة.

كتب خلال حياته عدداً كبيراً من الكتب التي تشمل حقلاً هائلاً من الأبحاث التاريخية والفلسفية، وبعض من أكثر كتبه تأثيراً كانت تاريخ الجنسانية، وولادة السياسة الحيوية، ويجب الدفاع عن المجتمع، كما استخدم مكانته بصفته كاتباً وأستاذاً لانتقاد الهياكل المجتمعية الحديثة من خلال عدسة البحث التاريخي.

3. لم يسعَ “فوكو” إلى الإجابة عن الأسئلة:

ما هي أنواع البشر؟ وما هو جوهرهم؟ وما هو جوهر تاريخ البشرية؟ وما هي البشرية؟ بخلاف العديد من أسلافه المفكرين، لم يسعَ “فوكو” إلى الإجابة عن هذه الأسئلة التقليدية التي تبدو واضحة، لكن سعى إلى فحصها فحصاً نقدياً.

4. “فوكو” ومفهوم السلطة:

ميشيل فوكو كتاب الكلمات والأشياء

بحث “فوكو” في العلاقة بين السلطة السياسية والعلم، ورأى في كتابه “الكلمات والأشياء” أنَّ السلطة قد طرحت الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي بدت في الظاهر واقعية أو منطقية أو مقبولة، ولكنَّها في باطن الأمر تكبت المعرفة والفكر؛ وذلك لأنَّ المجتمع قد تلقَّفها دون تدقيق أو تمحيص في طبيعتها أو مساوئها الكثيرة.

كانت السلطة في زمن “فوكو” عمودية؛ أي باتجاه واحد من الرئيس إلى الحكومة أو من الحكومة إلى الشعب الذي يقتصر دوره على التلقي، ويكون مفعولاً به وغير فاعل بالمرة، لكن “فوكو” كان له رأي آخر؛ إذ رأى أنَّ السلطة لا يجب أن تكون متعالية؛ وإنَّما يجب أن تكون محايثة؛ والمحايثة هي نقيض التعالي، فالدور الأساسي للسلطة هو خدمة الناس وليس التعالي عليهم.

5. السلطة تدخل في أدق التفاصيل:

من وجهة نظر “فوكو” لم يقتصر وجود السلطة على السلطات السياسية أو العسكرية أو الأمنية أو الثقافية؛ بل تتعداها لتصل إلى العلاقات الاجتماعية وفي الأوساط العلمية والمعرفية، وتصل أيضاً إلى العلاقات الأسرية وحتى الجنسية، ومن ثمَّ رأى “فوكو” أنَّ السلطة لا تقتصر على رأس الهرم؛ وإنَّما مبثوثة ومنتشرة في مختلف مفاصل المجتمع.

6. المعرفة والقوة في فكر “فوكو”:

يفلت عمل “ميشيل فوكو” من التصنيف الأدبي السهل، وتدمج كتاباته علم الاجتماع والفلسفة السياسية وتاريخ الطب والعلوم، أما الخيط المركزي الذي يمر عبره فكر “فوكو” هو العلاقة بين المعرفة والقوة؛ إذ أدى الارتباط بين هذين المصطلحين إلى قيام “فوكو” بصياغة مصطلح “معرفة القوة” (le savoir-pouvoir)، وبالنسبة إلى “فوكو” تمشي المعرفة والقوة في طريق مشترك؛ إذ يتم نشر السلطة الشرعية من خلال أنماط المعرفة، وتعتمد المعرفة دائماً على هياكل السلطة.

7. “فوكو” وتشتت السلطة:

المعرفة والقوة ليست أشياء ثابتة في حد ذاتها؛ بل إنَّها خصائص مشروطة وديناميكية تعتمد على قوى تاريخية، ومن ثم يتم إنشاؤها اجتماعياً وتخضع للتفاوض والخلاف والتغيير، و”الحقيقة” بالنسبة إلى “فوكو” هي “شيء من هذا العالم، وتتشكل بفضل أشكال متعددة من القيود”، وهنا ينشر “فوكو” علم التأريخ – ما يصفه بـ “علم آثار المعرفة” – ليكشف كيف تغيرت قوة المعرفة من خلال وصول الحداثة، بينما كانت السلطة في يوم من الأيام حكراً على الملوك والطغاة، فقد أصبحت مشتتة بشكل متزايد عبر شبكة كثيفة من المؤسسات التي تنشر خطابات المعرفة.

8. “فوكو” وفلسفة الهدم:

يؤخذ على “فوكو” أنَّه فيلسوف هدام؛ أي إنَّه يصف الواقع السيئ والمزري ويقترح هدمه أو التخلص منه بشكل كامل دون طرح البديل أو محاولة العمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه، وهي تهمة مشابهة لتهمة الفيلسوف الألماني “نيتشه” الذي سُمي بفيلسوف الهدم.

لقد فكك “فوكو” بنى السلطة، ولكنَّه لم يقدِّم البديل، ووصف البنى القمعية الموجودة في السجون، ولكنَّه لم يطرح خطة لإصلاح هذه السجون، فهو فيلسوف تفكيك وليس فيلسوف تركيب.

9. ما الذي يميز “ميشيل فوكو”؟

ما يميز “فوكو” هو امتلاك الحرية الكاملة لمن يكتب وكيف يكتب، فهو لم يلتزم برؤية معينة أو مقاربة محددة ينظر بها إلى الأشياء، وذلك بخلاف الكثير من الفلاسفة والمفكرين الذين التزموا بخط معين في المقاربة، مثل “جان بول سارتر” و”إيمانويل كانط”، ولكنَّه في الوقت نفسه لا يسكن في برج عاجي بعيد عن الناس؛ بل بخلاف ذلك دعا المفكرين إلى الاندماج مع هموم الناس؛ وذلك لأنَّ هذه هي مهمة المثقف الحقيقية.

10. إلامَ دعا “ميشيل فوكو” المثقفين؟

دعا “فوكو” المثقف أو الإنسان المفكر إلى التخصص؛ أي الالتزام بمجال معين وعدم الانخراط في جميع الصراعات والقضايا المتناولة، ودعاه إلى التركيز على مجال بعينه والالتزام به، وذلك من أجل ألا يضيع الجهد ويتبعثر هنا وهناك، والتخصص في جميع الأحوال هو حالة راقية ومتقدمة في جميع المجالات والأصعدة.

على سبيل المثال، نرى الفنانين يبدون آراءهم في مجال الصحة النفسية التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، وفي أغلب الحالات تكون غير دقيقة، والصحيح أن نترك الصحة النفسية للأطباء والمعالجين النفسيين، وينشغل الفنانون في الحديث عن الفن فقط.

11. المثقف في نظر “فوكو” ملتزم بالحياد:

دعا “فوكو” المثقف إلى الالتزام بالحياد والموضوعية في القضية التي يدافع عنها أو يتبناها، ويشدد على عدم امتطاء هذه الأفكار لإرضاء غايات سياسية أو حزبية أو شخصية أو دينية؛ بل يجب على المثقف الالتزام بأقصى درجات الحياد وتحييد عواطفه ومشاعره وآرائه الشخصية عن الأفكار والحقائق العلمية والفلسفية، ونظر إلى أنَّ أيَّة مخالفة لهذه القواعد البسيطة تنسف عمل المثقف وتحوله إلى إنسان عادي جداً، فكما الطبيب يختار العلاج المناسب سواء كان دوائياً أم جراحياً بناءً على معطيات علمية دون أيَّة تأثيرات عاطفية، كذلك هو المثقف يَشرح الفكرة دون عاطفة.

لقد عَدَّ “فوكو” العواطف والمشاعر أداة تشويش على العقل والعمليات الذهنية عند الإنسان، لكن في الوقت نفسه توجد للكاتب أو المثقف حياة شخصية بعيدة ومعزولة عن كل الأفكار والفلسفات، يمكن للمثقف أن يمارس فيها عواطفه وآراءه دون أن يقحمها في دوره الحياتي الدقيق بوصفه مثقفاً.

في الختام:

“ميشيل فوكو” هو بلا شك أحد أبرز المفكرين الاجتماعيين في القرن العشرين، ويظل عمله المتعلق بالعلاقة بين السلطة والمعرفة مؤثراً للغاية ومثيراً للجدل، وقد وصفه المنتقدون بأنَّه “ماركسي ثقافي” وما بعد حداثي، وهو مفكر تُعَدُّ الحقيقة بالنسبة إليه نسبية دائماً، ومع ذلك فإنَّ كتاباته – المستوحاة من نهج تاريخي فريد من نوعه – شكلت تحليلاً عميقاً للطريقة التي ولدت بها الحداثة وأشكال الحكم الجديدة.


اكتشاف المزيد من موقع الربوح

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من موقع الربوح

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading